
عشرات البحوث . مئات الأوراق . أبنية ومشاريع. مواد وأجهزة. موظفون ومستخدمون. كلفة وعائدات. كلها تعد لعنوان واحد دور العجزة والمسنين. في بعض البلدان التي ما زالت تعيش بقايا الترابط الأسري تعد ذلك من الأمور المخجلة. وتدل عن جحود الأبناء. لكن الأمر يختلف في المجتمعات المتقدمة التي صار فيها الفرد يلتفت لمصلحته الخاصة دون الاكتراث كثيرا للالتزامات الأخلاقية. لكن التعميم صفة ذميمة تدرج في قائمة الإحكام الجائرة والجاهزة التي يطلقها الناس إما بطرا أو جهلا على الآخرينفي بلد متقدم مثل ألمانيا يولي كل مرفق من مرافق الحياة العناية الخاصة،ويشبعها بالدراسة والتحليل والمتابعة يبقى أمرا كهذا ليس قدرا لكثير من الآباء والأمهات. بل قد لا يكون حتى لمن يحتاجون فعلا لعناية استثنائية تتطلب متابعة حثيثة من الأبناء والوقت الطويل من الرعاية. في رصد بعض هذه الصور يتبين لنا كيف أن شمس الوفاء والأمل تتسرب بثقة بأشعتها المبهجة بين كثافة السحب وتطبع في ذاكرة الحياة صورا حية وخلابة تغنيها وتمدها بالأمل.
فهذا فرانك قرر عدم ترك والديه في أي بيت من بيوت العجزة ورغم انشغاله بالعمل كمدرب رياضي إلا انه يحضر لرعايتهم باستمرار وثلاث مرات باليوم يعد فطورهم وغدائهم ويساعدهم في ملبسهم ونزهاتهم. ويقرر بين الحين والأخر أخذهم إلى رحلات استجمام يستمتعون بها.. تقول أمه معلقة على صنيعه: ربيناه صغيرا وأخذناه إلى رحلات عديدة، وأماكن مختلفة ننتظر منه الوفاء عند كبرنا. يساعدها في حمامها مع أبيه كأنهما ولداه، يتناول المنشفة ويجفف شعرها ويلبسها فستانها الباهر الجمال فتشع فيها الحياة وقد تعدت الثمانين لتجلس في غرفة طعام الفندق تتناول إفطارها بسعادة لا توصف.

وذاك ماركو عازف الجلو المقتدر. والمملوء حبا لأمه التي بدأت تصاب بمرض النسيان منذ قرابة الأربعة أعوام يعتني بها كأنها صغيرته المدللة يحمل لها صور العائلة يعرفها كل مرة على شخوصها . أحيانا تلمع في ذهنها الفكرة وتعود بعض الذكريات وأحيانا كثيرة يبدو كأنه يتحدث مع سراب لا يمكنه أن يستجيب. الوضع لا يدفعه للملل أو التبرم يؤدي عمله بكل مودة وامتنان. إنها أمه عازمة الكمان الرائعة التي شاركته سنوات عمره وكانت سيدة عظيمة قبل أن يداهمها مرض النسيان. يعودها ليلا ليغير لها حفاظتها. يغطيها ويضع إلى جانبها الدب الصغير فتحضنه كالطفلة الصغيرة .. يعدها بأنه سيكون بالقرب منها لاحقا .. ترد بشكرا شكرا.. ويجيب بمحبة عفوا عفوا.. في نزهاته معها يأخذها إلى شواطئ هامبورغ حيث السفن والمناظر الخلابة. يقول لها أتذكرين .. لا ترد إلا بنعم نعم.. يرد هي تقاتل أحيانا من اجل أن تتذكر ..لكن قلما تستجيب ذاكرتها. مسكينة أحيانا تنعت نفسها بالغبية والمغفلة لأنها لا تستطيع الاستجابة. يعزف لها أنغاما رائعة لقد ورث منها حب الموسيقى فأصبح موسيقيا لامعا. هل تذكرين ..هل تذكرين الكمان .. ترد بالبكاء نعم نعم.. يتوسلها أن لا تبكي لقد مضى كل هذا تقول له. يرد عليها بحنو : نعم مضى لكنه كان جميلا أليس كذلك وترد عليه بنعمها التي لا تفارق شفتيها بعد أن غادرتها الذاكرة وصارت صفحاتها بيضاء.
مارتين هو من بقي لأبيه الذي صار في منتصف الثمانينات. دائم الحزن تحرقه الذكريات وتسبقه الدموع الحرى لعجزه عن القيام بما يحب من الأعمال بعد إصابته بمرض أقعده. المنجرة التي كان يمضي فيها اوقاتا طيبة في ممارسة هواية النجارة. يأخذه إليها فتسبقه الدموع ..لا يستطيع الوقوف وإكمال الكثير مما كان يفكر بانجازه يساعده مارتين على العمل. وبين كم الحزن والرغبة يبدأ بمسك خشبه وأدوات النجارة. يحلق له كل يوم ويجلسوا جميعا هو وزوجته ووالديه على طاولة واحدة يشكرون الرب على الطعام وعلى الصحبة التي يقول عنها مارتن: بأنها كانت دائما رائعة ووافرة مثل نعمة الطعام.
إنها صورا حية من مجتمع لم تسحقه المدنية وعجلتها بل خرج من بين عجلاتها سنابل يانعة بالوفاء للتقليدي من التربية. وأماكن ظلت شاغرة في بيوت العجزة لان ساكنيها حظوا بفرصة فريدة من بالعناية. باختصار لم يكن أولادهم ناكري الجميل. فحصدوا حسن صنيعهم صحبة طيبة في أخر العمر.
.
