الخميس، 26 مايو 2011
لوحة الراهبة
لوحة الراهبة
رواية للاديب اللبناني المعروف قاسم قاسم
في روايته لوحة الراهبة.. يصور لنا الروائي اللبناني قاسم قاسم صورا متلاحقة ومتعددة من تاريخ بلده لبنان ..عبر قصة حب حالمة بين فنان شاب وجارته. وتتخللها الأحداث لتصب في بوتقة المعاناة التي مر ويمر بها الناس في زمن الحرب.
لم يترك قاسم للقارئ فرصة التثاؤب والتبرم . ففي سرده السهل الممتنع جمع بين خيوط عدة من ثقافة ألقت الثقافة الفرنسية بظلالها الواضحة عليها فتجد رشاقة الجملة وحضارية العلاقات والتي تعكس إضافة إلى الذوق الرفيع نوعية الشخوص الذين أستحدثهم في روايته.
لم يلتف قاسم كثيرا للمثيرات الجنسية رغم رغبتها بإغوائه طيلة الرواية . ولكنه ظل وفيا لهدف روايته في عكس واقع الحال المرير في مدينته التي مزقتها الحرب وأحالتها إلى مسرح مهجور في أحيان كثيرة بسبب القذائف وصفارات الإنذار.
قصة الحب التي ترافقها في سرد يدهشك بامتلاكه شروط الاحتيال على الدوام ، وتحتفظ بإسرارها إلى النهاية دون ان تترك لك ولا لصفحة إمكانية توقع ما سيحدث. لقد ذكرني قاسم بشاتوبريان واندرية جيد كثيرا . لا ريب فالأدب الفرنسي حاضر بشدة في الذاكرة اللبنانية وفي تكوين أدبائها وكتابها. فأنت تقرأ في فقرات عدة بقراءتك لأدب فرنسي بالعربية. وتلمس رقة العبارات وهدوء الأحداث رغم تلاحقها وتسارعها وتمكنها من شد اهتمامك إلى النهاية.
كيف تتعاطى مع رسائل قاسم قاسم هذا شأنك الذي ترك لك الخيار فيه بلا شك . لكن ما أراد قوله في عمود روايته قد فعله. في نقطة الالتقاء بين القارئ والراوي قال ما يريد وسمعته او ستسمعه عندما تقرأ الرواية أما رسائله الأخرى فعليك فك طلاسمها لوحدك ، والسهر لها ومعها كي تتعرف عليها عن كثب.
ربما لتمكنه من صنعته لم يرتبك قاسم بأوليات القصة . الطائفية المذهبية . الحرب.أسبابها. الأطراف المتنازعة . الحق مع من . من المذنب . كوارثها . نتائجها. نأى بنفسه عن كل ذلك كما نأى بنفسه عن الانزلاق في متاهة الاستغراق في تصوير مشاهد الحب بين الحبيبين . بل تركهما كلوحتين باذختي الجمال تكتملان روعة بعرضهما في أروقة أفخم قاعات العرض يومياتنا، للاحتفاء بهما.
في الخط الدرامي الذي تصاعد في الرواية عند اختفاء البطلة وبحثه عنها أوجز قاسم مقصده بدقة، واعتنى بإعطائه مساحة كافية في روايته. وترك كل ما تم قبل وبعد ذلك أحداثا ثانوية. الراهبة ولوحتها. الرهبنة وطقوسها . وحتى العدول عنها كقرار نهائي تناوله ببساطة وسلاسة يحسد عليها دون التطرق ولا بكلمة بسوء لاختيار أي راهبة.
قاسم يدعو في روايته للكثير ولا يخاف أحدا . يتعثر وينهض. يخطئ ويصيب.يعيد الحياة إلى أبطاله بعد انقطاعها. يترك البط يسبح في البركة ويغفو على أريكة الكنيسة. يدخن السيكار ويغامر بباقي حياته. يبقي الجميع في البيوت ، الذين تفرض عليهم الحرب والحياة سلوكا قصريا لا يريدونه فما كانت فتاته لتهرب لولا قرار أهلها إبعادها عنه. لكنها في ضياعها تكتشف بان حبها يستحق المحاولة وتعود للحياة عند أخر محطة. شباب المدينة المنهك من الحرب ينهض ويواصل ، رغم مصابه ومعاناته.
رواية في غاية الأناقة .سردها قاسم قاسم بمتعة . ولم يترك الدموع تهطل مدرارا لكنه ترك أسئلة تحتاج إلى إجابات . ووقفات تحتاج للتذكر في كوارث تلاحق كل البلاد وليس لبنان وحدها اذا ما حل بها مصاب الحرب والدمار والاقتتال. لم تلتقط عدسته مشاهد الموت والدمار بل اعتنى عناية خاصة بالدمار الداخلي وصوره بإتقان.
رواية لوحة الراهبة تستحق القراءة . وهي نموذج من الأدب الحديث الذي يتناول المأساة والحروب في حياتنا دون صراخ وعويل بل بهدوء وحنكة.
د. شذى