الاثنين، 30 مايو 2011
بين ضفتي الما
صور من المعركة
بين ضفتي الما...
(( عندما كنا مواطنين بدرجة مرعوب كنا نعيش زمن الحرب. يعرضون لنا على شاشات التلفاز صورا لقتلى .كانت الصور صامتة . لا تقل لنا ولا نقل عنها شيئا كنا نحدق بها وهي تحمل عنوان صور من المعركة .. كانت معركة طويلة واحدة تدور في جبهات بعيدة.تحرقنا بشظاياها، وتخطف خيرة رجالنا... مضى زمانها وانتهت . كبرنا صرنا بدرجة مذهول ولم يعد التلفاز يعرض علينا صورا صامتة لقتلى فحسب بل صارت تصاحبها كل الوسائل المساعدة من صراخ وعويل وتصريحات تعددت جبهاتها لكن غايتها ظلت واحدة تريد حياتنا. لتلقي بجثث أيامنا على قارعة العبث كل يوم ))
وفي المجتمعات الجاهلية بقيت المرأة تشكل وسيلة محاربة الرجل لنظيره عندما يغير عليه ويسبيها. فدفن الظالم منهم ابنته كي لا يلحق به عار سبيها.
مضت ألاف السنين على ذلك، بقيت الحروب وويلاتها. وظلت المرأة تدفع ثمن العدائية والإجرام في كل حرب. وظل منطق البدو الغزاة يتحكم في عقول بعض الرجال حتى وهم يقودون أفخم السيارات ويقتنون احدث الأجهزة ويتنقلون بين بلاد العالم حاملين بداوتهم وارثهم الجاهلي.
الصورة الاولى: الفرهود
تهاوت سريعا أسوار المدن أكثرها دمارا كانت أسوار بغداد. هجمت عليها أسراب من الجراد العدائي . التهم بعضه كل خزائن مكتباتها.فانتشى هولاكو لصنائع أصحاب همجيته. أحرقت المكاتب والمؤسسات. وكسرت الأبواب. ورأت الثعالب الفرصة مؤتية للإغارة على كرومها. نشطت عصابات خطف النساء واغتصابهن، وفاحت من خلف جدران معتمة روائح عفنة لفضائع ارتكبت بفتيات كن يغفون على أسرة من القحط ربما لكن حدائق أحلامهن كانت مثقلة بثمار أمل لا يترجل فيها فارس أحلامهن ، ولا تفارق البسمة وجهه.
الشاعر منشدا
« حشرات المساء اللزجة تطن في سقوف شجرة نومك، وتشعرين بالاشمئزاز من حاضرك عند النافذة المتصدعة لأحلامك الفقيرة.
هل تنتظرين تلويحه ما، أو نسمة شاطئ غريب من عشاقكِ القدامى؟
ربيع سنوات شبابك المتأرجحة ما بين قرنفل الينابيع ونار
الحجارة الكريمة، أطفأت مصابيحها قوارب محملة بعطايا قراصنة
عجائز. »
الصورة الثانية البحث
قويت شوكة العصابات الغازية التي اصطلح على تسميتها مليشيات الموت .. وراحت تطرد بهمجية ووحشية سكان المدن المسالمة. خرج الطبيب والمهندس والصيدلي والأستاذ الجامعي متعلقا بأهداب الرجاء باحثا عن فرصة حياة له ولأسرته هربا من موت محقق. بينه وبين تحديقه القتلة في القائمة بحثا عن اسمه سهوه حظ قد ينالها وقد تغفله. في مخيمات أنشئت خلف الحدود على الأرض السورية التي استقبلت اكبر عدد من اللاجئين نصبت الخيام، وفي كل منها حكاية من حكايات النكبة التي حلت بالعراق بعد الغزو الانكلوامريكي، وما لحق به من اجتياح إيراني لتصفية ثارات حرب الثمان سنوات العجاف على أيدي مليشيات الموت بتسمياتها المختلفة.
رغم بؤس الحال وشظف العيش والهوان إلا أن زمر الخسة لم تترك ساكني الخيام بحالهم مازالت ظباء العراق تعيش فيها، وما زلن قادرات على ملئ جيوبهم بالدولارات المتساقطة المبذولة من بدو الصحراء التواقين لالتهام لحومها الطرية سواء بالقهر نية أم معروضة على مسارح المجون في الملاهي الليلية التي غصت بهن بكل الطرق والأساليب.
هرب الأب العالم . الأستاذ . الضابط ذو الرتبة الرفيعة بظبائه بعدما خانته البندقية وانتصرت عليه تكنولوجيا الخيانة الحديثة فلم يستمع له جنوده وضاعت المعركة. لكنها لم تنتهي،وان توهم .
هناك من يتعطش لسلبه بقايا أمله وكسر همته في النهوض من كبوته والعمل على حماية نسائه. تم إلهائه عن خيمته بعض الوقت تكفي للسطو على ما بقي له.
في بيوت صدئة الأبواب راحت الضباع تريق على أجسادهن زبدها المسموم . فتتقرح وتأن الظباء من قيح الجروح التي غرزت فيها الوحوش أسنانها. تغتصب الإناث المنهوبات ويمعن في إذلالهم حد اليأس كي يبعوهن القوادون للمتنزه المتخم بالدناءة والدنانير.
لما عاد لخيمته لم يجد العالم ولا القائد احد تتوالى خسائره والحيلة غبار شمس لا يمكن الإمساك به.
تتوالى على الفتاة الأجساد العطنة. لكنها تلمح في لجة الظلام التماع يقترب تظنه لوهلة أفعى يفرحها التفكير بإنهاء هذا الاحتفال الجنائزي بسمها لكن الالتماعة تزداد فتتعجب كيف تحملها قدميها لتلحق بها فتعدو .. تهرب من الظلمة التي يزيدها حلكة صرير الأبواب وهي تفتح وتغلق لمغتصبيها. تعدو حتى الخيام. حيث الأب يدور على نفسه بصوفية صامتة. ترتمي بين أحضانه تقص عليه ما مر بها وبين كل مقطع وأخر من روايتها تلتصق به أكثر مخافة أن تنتزعها منه أنياب الوحوش التي هربت منها للتو.
الشاعر مزمجرا...
« غاب عن الطبيعة القديس والشيطان
غابت الصلاة وأسرار الخزائن
وغابت الشمس ونذر الفصول
غابت وتهدمت جنائن وحانات بغداد
وعصف فوق أنقاضهما الصياح »
تحدثه نفسه ـ الأب ـ بان لا هم تالي له سوى البحث عن السارق القواد وقتله. لكن كم منهم ستجهز عليه يداه . وكم من النساء سوف يعيد إليهن ما ضاع على أيدي أمثاله. وهل سيأمن على ابنته في خيمة يمزق حرمتها نصل أي خنجر لسارق ليل.
الشاعر يذكره بحكمة
«هل هناك جدوى في البحث عن ما لا يفصح عن ذاته
بين الحلم والذكرى؟»
الصورة الثالثة سلال الفاكهة
فتيات دحرج الموت والدمار أقفاصهن ففتحت أبوابه.. لم تكن إلا كلمات ناعمة ووعود براقة كافية لسوقهن أو حشرهن بعلب ليل لا تفتح على نهار .
ومن أكمام طويلة وأقمشة خشنة إلى فساتين عارية براقة . ومساحيق تدهش مستخدمتها قبل زبونها. فتسكرها الكلمات وتنتشي لخشبات مسرح تبيع عليه كل يوم أمسها المهمل ويومها الصاخب وليس لديها متسع من الوقت للمفاصلة عن مستقبل بلا هوية.
الشاعر محذرا متوعدا
« في يدك الآن سكين فضة حادة، لكن الفاكهة متعفنة وشراع العمر يغطس في الظلال المعتمة للكهولة.
لا الترقبات الشفيفة للأمل ولا النسيان يفتحان لك الأبواب الخضر للحديقة المفتوحة صوب الأبدية. »
بعضهن مر عليهن العمر الافتراضي لفرحة الهروب من أقفاصهن القديمة ، وتبخرت لحظات الوهم بإيجاد السعادة. أعياهن ثمنها الباهظ والذي لم يكن في أحسن الظروف مخيرات بدفعه. لا نهاية لمتاهة أبدية يرقصن فيها حافيات الأقدام
الشاعر مواسيا
«لماذا تنزفين حجارة دموعك على أسوار القصور، وتخفين نيران قصيدتك ما بين خزانات المال والركض وراء ما لا فائدة ترجى منه؟
تغريدات طيور اوبرالية صعدت معي الحافات الحادة للصلاة، وأنا أتضرع إلى الصيف من أجل أن يمنحك أشارة أو إيماءة تدلك على الينبوع المتدفق للحياة. »
الصورة الرابعة الثروة
عمل مع كثيرين قبل أن ينتهي به المطاف مستخدما عند أبيها. كان الأب رجلا دمثا عامله بطيبة. ولم يغبن يوما ما حق احد من مستخدميه. تطلعت عيناه إلى ابنة صاحب العمل. لم يكن الفارق الطبقي وحده الحاجز كانت شابة تدرس الطب ولم يكن أكثر من أجير غادر مقاعد الدراسة مبكرا غير راغب في متابعة المشوار. انتقل بين مهن عديدة حتى انتهى به المقام للعمل أجير عندهم.
لما عمت الفوضى كل مناطق الاحتلال أحس برغبة جامحة بها . انطلق يعدو إلى بيتهم يتعثر بعربات محملة بكل شيء استطاعت الأيدي سرقته من الدوائر والمكاتب وبيوت الأثرياء.
لكنه يريد سرقة جوهرة أثمن . طرق الباب دخل ليبادره الأب سائلا: خير ابني ..لكن الخير طير هاجر العراق لما وهن الجسر الذي أذلته أول دبابات الاحتلال. افرغ الرصاص برأسه والحق به الزوجة فانقطع صراخها والتفت لدموع ابنته يمسح بها جلده الخشن السميك عله يعطيه بعض الطراوة. وسال دمها بين فخذيها ليختلط بدم أبيها الذي ظلت عيناه مفتوحان جزعاً دون أن تريا شيء.
الشاعر منشدا
« كل شيء يتهدم ويتكلل بالفناء
كل شيء ينحت أشرعته في الرماد
لا فردوس ينجيني من عصمة الجرح
ولا ميراث يقوض قوانين موتي التي تقرضها الدودة اللزجة
صرخة جافة تزيح ضماناتي في العيش
وترفع عني في سقوط النيزك كل حصانة
آلامي طيور تمضي عبر ليل العصور »
تشفى الشامتون بالعراق عندما كبا ، واستبيحت أرضه وسماءه. تناهى إلى الأسماع في المجالس العامة والخاصة وشايات وشائعات. أقساها كما هو متوقع من نصيب المرأة. لكن.. ليت للكن ألف لسان لتجيب
لكنها نصف الدورة لها لل الما.. والنصف الأخر بعلقمه إذا لم يزد
ملاحظة : النصوص الشعرية للشاعر العراقي الكبير نصيف الناصري من ديوانه الأخير “بين خرائب محنتنا”. 2011